الشر المطلق والمرابطة الفكرية
لقد استعملنا مصطلح "الشر المطلق"، لأول مرة، في كتاب: ثغور المرابطة الذي صدرت طبعته الأولى في سنة 2018، تنبيها على ظلم عظيم بدأت ملامحه تتراءى في الأفق، وتمييزا لـمآس غير مسبوقة تنتظر الأمة والعالم؛ إذ كتبنا في مطلع الفصل الأول ما نصه:
"في هذا العالم الذي فقَدَ خُلُقَ الحياء، بحيث بات كل قويٍّ فيه يصنع ما يشاء، لا غرابة أن يَلْقى الإنسانُ ألوانا شتى من الأذى؛ غير أن ما يلقاه "الإنسان الفلسطيني" من أذى الأباعد والأقارب جميعا ليس له نظير ولا تقدير، ناهيك عما يقاسيه من "الكيان الإسرائيلي" الذي أضحى إيذاؤه بلا وصْف، وحتى بلا اسم، كأنه الشر المطلق؛ إذ أن أشكال هذا الإيذاء أكثر من أن نحصيها واحدا واحدا، فلا نكاد نحصي ما وُجِد منها في الآن، حتى تفجؤنا أشكال مِن بَعْدها أشكال أخرى لم تكن في الحسبان".
- مفهوما الشر المتجذر والشر المبتذل
ولم يخطر ببالنا آنذاك أن نعقد مقارنة بين مفهوم "الشر المطلق" ومفاهيم أخرى استخدمها فلاسفة آخرون سبقوا إلى تصوّر "الشر الأقصى"؛ والآن، وبعد أن وقع ما كنا نستشعر من ظلم ومآسٍ ووجبت المرابطة الفكرية، بات لزاما علينا إجراء هذه المقارنة؛ وقد استُعمِل في الدلالة على معنى "الشر الأقصى" مفهومان اثنان: أحدهما، مفهوم "الشر الجذري" أو قل "الشر المتجذِّر"، وهو من وضع الفيلسوف الألماني "إيمانوئيل كانطـ"[1] الذي عاش في القرن الثامن عشر؛ والثاني، مفهوم "الشر الابتذالي" أو قل "الشر المبتذَل"، وهو من وضع المفكرة الأمريكية ذات الأصل الألماني، "حنا أراندت"[2] المتوفاة سنة 1975.
1.1. مفهوم الشر المتجذر
أما عن مفهوم "الشر المتجذر"، فإن "الجذرية" التي يقصدها "كانط" ليست كون هذا الشر أقصى الشرور إيذاء، وإنما كون الشر أقصى تغلغلا أو انغرازا في النفس البشرية؛ فـ"جذرية" الشر عنده هي "الانغرار الأقصى في النفس"، ذلك أنه يرى أن الخير والشر متعلقان بإرادة الشخص وحدها، وأن الأشخاص الواقعين في الشر على مراتب ثلاث: أدناها ضعيف الإرادة؛ إذ يسعى الشخص إلى أن يأتي عملا صالحا لا يدفعه إلى ذلك إلا كونه صالحا، لكنه يضعف عن إتيانه لسبب أو آخر؛ والدرجة التي هي أسوأ منها، فاقد الإخلاص؛ إذ لا يأتي الشخص بالعمل الصالح إلا مشوبا بالغرض الخاص، ولولا هذا الغرض، ما أتاه؛ وأسوأ الدرجات جميعا، الشرّير؛ إذ يقدّم الشخص اعتبار أغراضه الخاصة على اعتبار القانون الأخلاقي، قائما بقلب الترتيب الذي ينبغي أن تكون عليه دوافعه إلى العمل، بحيث يجعل صلاح عمله تابعا لوفائه بغرضه.
من هنا، يقرر "كانط" أن الشر، برُتبه الثلاث، قائم في مخالفة الإرادة الإنسانية للقانون الأخلاقي؛ كما يقرر أن هذه المخالفة، بأي درجة كانت، لا ينجو منها أحد من البشر، وأن السبب في ذلك هو أن الميل إلى هذه المخالفة جد متجذر في الطبيعة البشرية تجذُّر حرية الاختيار فيها، بحيث لا يمكن استئصاله كما لا يمكن أن تُستأصَل هذه الحرية؛ لذلك، كانت حرية الشخص هي وحدها القادرة على أن تجعله يجتنب الشر متى اتجهت إلى اختيار الامتثال للقانون الأخلاقي.
وليس من تفسير للصفة الكلية التي ينسبها "كانط" لتجذر هذا الميل في النفس إلى المخالفة إلا وجود "الخطيئة الأصلية"؛ وهو، وإن لم يصرح باستناد تحليله إلى هذه الخطيئة، فقد استثمر في هذا التحليل نصوص التوراة المتعلقة بهذه الخطيئة[3]؛ وعليه، يكون "كانط" قد اعتمد خبرَ التوراة بأن أصل الشر هو "الخطيئة الأصلية" وأخرجة بصورة عَلمانية، وهي أن الشر غريزة في الإنسان؛ فمفهوم "الشر الجذري" عنده يدل على ما يدل عليه مفهوم "الشر الغريزي"، فالمفهومان مترادفان؛ وإذا صح هذا، صح معه أن مدلول "الشر الجذري" لا يزيد عن مدلول "مطلق الشر"؛ فقولك: "الشر الجذري" مِثل قولك: "الشر" بمجرده.
أما مفهوم "الشرق المطلق"، وإن كان مصدره، من حيث إنه شر، هو "الغريزة"، فضده الذي هو مفهوم "الخير المطلق"، فمصدره، من حيث هو خير، هو "الفطرة"؛ وكلاهما، أي "الغريزة" و"الفطرة"، مبثوثان في النفس؛ فيلزم أن "الشر المطلق" لا ينتج عن مجرد مخالفة القانون الأخلاقي شأن "الشر الجذري" عند "كانط"، وإنما عن إتلاف "الفطرة" نفسها التي هي منشأ هذا القانون.
2.1. مفهوم الشر المبتذل
أما مفهوم "الشر المبتذل"، فلم تلجأ "أرانْدت" إلى وضعه، إلا بعد أن استخدمت مفهوم "الشر الجذري" لـ"كانط"، لكن صرَفته عن معناه عنده، وجعلته يدل، لا على معنى "الانغراز الأقصى" كما عند "كانط"، وإنما على معنى "الإيذاء الأقصى"؛ إذ أنها اختصت "أرانْدت" بالبحث في "الحكم الشمولي" باعتباره نظام مراقبة مطلقة، وعبّرت، عن آثار هذه المراقبة الشمولية، باسم "الشر الجذري"؛ واعتبرت أن الأثر الأساسي لهذا الشر هو أنه يجعل الكائنات البشرية عبارة عن كائنات زائدة عن الحاجة[4]، أي كائنات لا اعتبار لها، إذ تكون قد جُرِّدت من حقوقها القانونية والأخلاقية كما جُرّدت من حريتها التي بها عفويته وإبداعيته[5]، وقد نسميهم "اللامعتبَرين".
لكن "الحكم الشمولي" ليس له هذا الأثر وحده؛ فإذا كان يصنع، من عامة الشعب، أفرادا لا اعتبار لهم، فإنه يصنع، من موظفيه البيروقراطيين، أفرادا لا افتكار لهم، بمعنى "كائنات فاقدي القدرة على التفكير"[6]، وقد نسميهم "اللامفتكِرين"؛ هاهنا، احتاجت "أراندت" إلى وضع مصطلح "الشر الابتذالي"، إذ المراد به هو أن الواحد من هؤلاء "البيروقراطيين" لا يصدر ألبتة في أفعاله عن حكمه أو فكره، ولا حتى عن دوافع شريرية تخصه، وإنما عن مجرد كونه موظفا يمتثل للأوامر، بحيث يأتي بالشر، على فظاعته، بدوافع غاية في الابتذال مثل "الترقية في وظيفته" أو "نيل رضى رؤسائه" أو "إثبات قدرته على القيام بعمله على أحسن وجه".
من هنا، يتبين أن هناك تكاملا بين المفهومين: مفهوم "الشر الجذري" ومفهوم "الشر الابتذالي"، إذ الأول يتعلق بعموم المواطنين، جاعلا منهم كائنات بلا اعتبار؛ والثاني يتعلق بخصوص الموظفين، جاعلا منهم كائنات بلا افتكار.
والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أن "أراندت" ترى أن هذا الشر الأقصى بوجهيه: "اللاعتبار" و"اللافتكار" يقترن أساسا بالوهم الذي يقع فيه الزعيم الشمولي، وهو أنه يملك "القدرة على كل شيء"، إذ بالنسبة إليه كل شيء ممكن؛ والواقع أن "أراندت" استعارت معنى "القدرة على كل شيء" من "التوراة"، إذ أن الإله هو وحده القادر على كل شيء، واستثمرته في تحليلها العَلماني؛ فنسبت إلى هذا الزعيم أوصافا تخص الإله، ومنها، على الخصوص، وصفان هما: "الربوبية" و"الوحدانية"؛ فالزعيم الشمولي يتربّب، حتى لا أحد يعلو عليه، ويتوحَّد، حتى لا أحد يُشرَك به؛ ومع أن "أراندت" ادعت أن الدين التقليدي، مسيحيا كان أو يهوديا، لم ينفعها في شيء، لم يسعها إلا أن تقر باقتباسها منه، إذ تقول في رسالة إلى أستاذها الفيلسوف الألماني "كارل ياسبرس":
"إذا كان أي فرد من حيث هو فرد قادرا على كل شيء، فلم يعد هناك داعٍ لوجود أناس كثيرين، تماما كما في الدين التوحيدي، فقدرة الإله على كل شيء وحدها هي التي تجعله "الواحد"؛ وهكذا، فإن قدرة الإنسان الفرد على كل شيء هي التي تجعل [غيره من] الناس فاقدي الاعتبار"[7].
نخلص من تحليل "أراندت" إلى أن "الشر الأقصى" الذي يأتيه الزعيم الشمولي، جذريا كان أو ابتذاليا، إنما هو ناتج عن منازعة الإله في ربوبيته ووحدانيته؛ بينما "الشر المطلق"، كما سيتضح، يوجب أكثر من هذه المنازعة، وهو إنكار الإنسان مواثقته للإله.
بعد أن فرغنا من بيان مفهوم "الشر المتجذر" عند "كانط" ومفهوم "الشر المبتذل" عند "أرانْدت"، نمضي إلى بسط الكلام في مفهوم "الشر المطلق" الذي هو مفهوم ائتماني؛ فنقول إن هناك فرقا منهجيا أساسيا بين التوسل بالمفهومين الأولين في تحليل "الشر الأقصى"، وبين التوسُّل في هذا التحليل بمفهوم "الشر المطلق"، إذ يتعلّق هذا الفرق بالموقف المتخذ من الطرفين في قضية أساسية، وهي: أن "الشر الأقصى لا يمكن أن نجعل منه مفهوما إجرائيا إلا بالبناء على الرؤية الدينية إلى الشر".
فالتحليل العَلماني يعترِض على هذه القضية المنهجية، لكن هذا الاعتراض لا ينفع صاحبه؛ فقد سبق أن " كانط" بنى تحليله العَلماني على معنى ديني غير مصرح به هو "الخطيئة الأصلية"، بينما بنت "أراندت" تحليلها العَلماني على معنى ديني مصرح به، وهو "القدرة الكلية"، فضلا عن كونها ما فتئت تُكرر بأنه لم يَعُد من الممكن الاعتماد على المفاهيم الفلسفية والأخلاقية التقليدية في فهم حدث "الشمولية"[8].
وبذلك، يكون تحليل كل واحد من الفيلسوفين تحليلا ذا وجهين، إذ هو تحليل عَلمانيُّ، تطلُّعا، وإيمانيُّ تأثرا؛ وقد يُنسَب هذا الازدواج إلى الاضطراب في المنهج، لا إلى الاختيار، وحتى إذا كان مختارا، فهو شُبهة تَرِد على هذا التحليل.
- مفهوم الشر المطلق
وأما التحليل الائتماني، فإنه يسلمّ بهذه القضية المنهجية، ذلك أن "صفة "الأقصى" التي يتصف بها "الشر المطلق" لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى معنى "الكمال" كما يحدّده "الدين"؛ فهذه الصفة تتحدى التجريد العقلي الضروري لـ"المفهمة"[9]، بل تتحدى "العقل المجرَّد" بما هو مجرَّد؛ والشاهد على هذا التحدي هو الصفات التي تُسنَد إلى الشر المطلق نحو: "لا يُعقَل"، "لا يُتصوَّر"، لا يُتوهَّم"، "لا يُفهَم"، "لا يُوصَف" (أو بلا وصف)، "لا يُسمَّى" (أو بلا اسم)، "لا يقال".
فلولا أن هذا الشرّ تجاوزَ ما هو بمقدور "العقل المجرَّد" إدراكُه، ما أُسندت إليه هذه الأوصاف؛ وعلى إفادة هذه الأوصاف العجز عن هذا الإدراك، فإنها تُنبّه أن هذا الشرّ الذي لا يدركه العقل، بات واقعا مشهودا، بات أمرا نراه بأم العين؛ ولما كان "العقل المجرد" عاجزا عن إدراك "الشر المطلق"، لزم أن يوجد عقل فوقه يدرك إمكان هذا الشر وتحقّقة، كما لزم أن يكون هذا العقل الأعلى عقلا يأخذ بـ"القيم"، ويُسلِّم بأن القيم دائمة الوصل بـ"المطلقات" المتمثلة في "الكمالات الإلهية"، هذه الكمالات التي اختص الدين بالتعريف بها.
لذلك، نبني تحليلنا لـ"الشر المطلق" على التفريق بين عالمين: أحدهما، "عالم المواثقة" الذي هو "عالم الكمال"؛ والثاني "عالم المعاملة" الذي هو عالم يعرِض له النقصان، حتى يبلغ أقصاه، ويُدرَك أقصاه بفضل الصلة بـ"عالم الكمال"، أي "عالم المواثقة".
ونعتمد في ذلك ميثاقين إلهيين هما: "ميثاق الإشهاد" و"ميثاق الاستئمان"؛ والخاصية المميزة لهذين الميثاقين هما أنهما ميثاقان كليان أو قل عالميان، حيث إن الخطاب الإلهي في "ميثاق الإشهاد" كان موجَّها إلى الآدميين، فردا فردا، وحيث إن العرض الإلهي في "ميثاق الاستئمان" كان موجَّها إلى الإنسان بما هو إنسان.
تترتب على هذا أنه ينبغي، في تحليل "الشر المطلق"، الانطلاق من مفهوم "العالمية"، بحيث يكون إيذاؤه للفلسطيني الواحد بمنزلة إيذائه للعالم كله.
فإذن يتعين علينا أن نبين مسائل ثلاث، إحداها: كيف أن المرابط الفلسطيني إنسان عالمى؟ والثانية: كيف أن إيذاء هذا المرابط إيذاء للعالم كله؟ والثالثة: كيف يمكن التصدي فكريا لهذا الإيذاء العالمي؟
1.2. عالمية الإنسان الفلسطيني
لا أحد، في هذا الزمان، يضاهي "المرابط الفلسطيني" في تحققه بالميثاقية؛ والتحقق بالميثاقية إنما هو تحقُّق بالإنسانية، ما دامت الإنسانية تتحدد بالميثاقية؛ فالمرابط الفلسطيني، بموجب واقع تصديه لـ"الشر المطلق"، يكون قد اختير لمهمتين تشملان الإنسانية جمعاء، إحداهما، "تجديد القيم للإنسانية"؛ والثانية "تحرير الإنسان في العالم".
1.1.2. تجديد القيم للإنسانية؛ اعلم أن القيمة الواحدة من القيم لا توجد إلا بوجود "الكمال المطلق" الذي تُؤخذ منه؛ ولما كان للقيمة أصل في الكمال، وجب أن تكون فائدتها، لا متعلقة بالفلسطيني وحده، وإنما متعلقة بكل إنسان، كائنا ما كان مكانه وزمانه؛ لكن يبقى أن مكان المرابط الفلسطيني غير مكان غيره؛ فـ"أرض فلسطين" قد تجمَّعت وتجذّرت فيها "أسباب القداسة"؛ ولا يخفى أن "القداسة" صفة لكل قيمة مأخوذة من الكمال المطلق؛ كما أن زمان المرابط الفلسطيني غير زمان غيره؛ "ذاكرة فلسطين" قد اتصلت وتداخلت فيها الآثار الروحية؛ ولا يخفى أنه لا أثر روحي بغير قيمة كما أنه لا قيمة بغير كمال.
وإذا وُكِل إلى المرابط الفلسطيني أن يجدد للإنسانية قيمها، فذلك لأنه أُعطي "القدرة على التقديس" كما أعطي "القدرة على التأثير الروحي"، حتى كأن وجود المكان المقدَّس والزمان المؤثّر من وجوده، وإلا فلا أقل من أنه من أجل وجوده؛ ذلك أن "القدرة على التقديس" تجعله يحب كل مكان يأوي إليه، حتى ولو كان نفقا في الأرض، والحبّ سرُّ تقرّبه إلى ربه؛ وبفضل هذا الحب الإلهي، يبث التقديس حيثما كان وأنى كان؛ كما أن "القدرة على التأثير" تجعله ينسى ذاته، حتى ولو ذُكّر بحقها عليه، ونسيانُه لذاته سرّ كونه في خدمة أخيه الإنسان، من غير انتظار عِوَض ولا قضاء غرَض .
وما حصَّل المرابط الفلسطيني هاتين القدرتين: "التقديس" و"التأثير"، إلا لأنه ما انفك يتذكر "الميثاق الأول" الذي أُخذ من أفراد البشرية كلهم يوم "الإشهاد"، والذي كان الأصل في منشأ "الفطرة" في الإنسان؛ فشهود "الربوبية" يملأ قلبه وشهود "الوحدانية يملأ عينه؛ وهذا الشهود، إبصارا واستبصارا، يلازمه في أدنى الأعمال، فما الظن بما عَظُم منها! حتى كأن أعماله، وهي تصدر عنه تَتْرى، تسبقه إلى تذكّر هذا الميثاق، فتذكّره به!
وعلامة شهوده للوحدانية أن لسانه لا يفتر، وهو يأتي بعمله، عن ترديد: "الله أكبر، وما رميتَ، إذ رميتَ، ولكن الله رمى"! بل باتت أعمال سواه تُذكّره، بل بات إيذاء عدوّه يذكِّره؛ وعلامة شهوده للربوبية ترديده، وهو يلقى أذاه: "حسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين"؛ فهذا المرابط، لم يزل، حقّا، يترقّى في مراتب التذكر، حتى تلبَّس بـ"ميثاق الإشهاد" أيما تلبس، وكأنه، في رباطه، ساجد بين يدي ربه يتلقى عنه خطابه: "ألست بربكم؟" ومن كان هذا وصفه، فقد تولاه ربه؛ وما نيله من عدوه، على أشكال أسلحته وأمداد أولياءه، إلا من هذه التولية الإلهية.
وهذا التلبس بـ"ميثاق الإشهاد" يجعل فطرة المرابط الفلسطيني لا تختزن القيم الموروثة عن هذا الميثاق فحسب، بل تتسع لمزيد الاقتباس للقيم من الكمالات الإلهية، حتى كأنه يواثق ربه حضورا، لا تذكرا، إذ أضحى لا يستحضر القيم بمجردها، وإنما يستحضرها على الدوام موصولة بهذه الكمالات؛ وحفظه لهذا الوصل يُـجازَى بإمداد هذه الكمالات الإلهية له، فيُعان على الاستمداد منها كما أُعين يوم "الإشهاد"، مقتبسا قيما جديدة يُودعها فطرته، وإلا فلا أقل من أنه يحيي قيما مودعة فيها، مجدّدا صلتها بهذه الكمالات؛ فمن ذا الذي ينكر أن "الصمود" التي زانه إنما هو قيمة تولى تجديدها، فبلغت من التأثير درجة أن يُنسَب إليها انتصاره على عدوه! وما ذاك إلا لأنه، بفضل تلبّسه بالميثاق، وصلها بـ"الكمال الصمدي".
2.1.2. تحرير الإنسان في العالم؛ الواقع أن الإنسان لا يشعر بإنسانيته في قيمة من القيم شعوره بها في قيمة "الحرية"، حتى كأن "الإنسانية" و"الحرية" سواء؛ فمن فقَد حرّيته، لا بد وأنه فاقد لإنسانيته ما لم يرابط من أجل تحرُّره؛ والمرابط الفلسطيني، وقد كُتب عليه أن يتصدى لـ"الشر المطلق"، إنما يتصدى لِـما يذهب بإنسانية الإنسان، فيلزم أن يكون متصدّيا لِـما يذهب بالحرية في هذا العالم.
وما استحق المرابط الفلسطيني هذه الرتبة التي تخوّله تحرير العالم، إلا لأنه ما انفك يتذكر ميثاقا ثانيا أُخذ من الإنسانية جمعاء وهو "ميثاق الاستئمان"؛ إذ تعهّد الإنسان لربه بأن يحمل الأمانة، أي أن تكون إرادته موافقة لإرادة ربه؛ ولم يزل المرابط الفلسطيني يترقى في مراتب تذكُّره لـ"ميثاق الاستئمان"، حتى تلبّس بهذا الميثاق؛ فكان لا بد أن يجعله هذا التلبس يتذكر، على طريقته، "الاختيار الأول" الذي أُكرمت به الكائنات جميعا عند عرض الأمانة عليها؛ فهذا "الاختيار الأول" هو بمنزلة "الحرية الأصلية" التي تمتّع بها الإنسان، ولـمّا يواثق ربه، بعدُ، على حمل الأمانة.
وهكذا، يكون المرابط الفلسطيني، متمسِّكا، في إتيان أعماله وتصرفاته، لا بحرية واحدة، وإنما بحريتين اثنتين هما: "حرية الموافقة" الخاصة التي تقرّبه إلى ربه، و"الحرية الأصلية" العامة التي تؤلف بينه وبين باقي الناس، وتجعله يحرّرهم وهو يحرر نفسه.
والشاهد على هذا التأليف بينه وبين أخيه الإنسان في كل مكان هو الشعارُ الذي عمّ العالم بأسره، وهو: "الحرية لفلسطين" أو "فلسطين حرة"، حتى إن السلطات المحلية في مختلف البلدان كانت لا تقبل غيره، وهي تظن أنها بهذا المنع تحد من عنفوان التظاهرات، وما درت أنها تذكيها! إذ أن ظاهر هذا الشعار هو أنه مطالبة بحرية الفلسطيني، لكن باطنه هو أنه مطالبة بحرية كل إنسان في أي بقعة من بقاع العالم، أي أنه مطالبة بـ"الحرية الأصلية"؛ فقد صار "الشر المطلق" صار يؤذي هذه "الحرية الأولى" كما ظل يؤذي "حرية الموافقة"؛ فكان كل متظاهر، وهو يرفع صوته بهذا الشعار، إنما يطالب بحريته هو، شعورا بالخطر الذي يحذق به.
وعلى الجملة، فإن عالمية المرابط الفلسطيني تقوم في توليه، من جهة، تجديد القيم، إحياءً أو إنشاءً، متلبّسا بـ"ميثاق الإشهاد"؛ وتوليه، من جهة ثانية، تحرير الإنسان في العالم على مقتضى الحرية الأصلية، متلبسا بـ"ميثاق الاستئمان".
2.2. إيذاء الفلسطيني إيذاء للعالم
لقد تجلى "الشر المطلق" فيما يمكن نسميه بـ"الإبادة الجذرية"، واتخذت هذه الإبادة صورا ثلاثا هي: "إبادة الفطرة" و"إبادة الأمانة"، و"إبادة المواثقة".
1.2.2. إبادة الفطرة، فقد سبق أن "الفطرة" أُودعت القيم، بوصفها محلا لها؛ والحال أن "الشر المطلق" ينتهك كل قيم الإنسان الفطرية التي عُرفت باسم "الحقوق" و"الحرياتé، ويأتي، في حق الفلسطيني، بانتهاكات ثلاثة، هي انتهاك القيم التي تحفظ كرامة الإنسان، حتى يُسلمه إلى اليأس؛ وانتهاك القيم التي تحفظ قداسة المكان، حتى ينزع عنه حق الوجود فيه؛ وانتهاك القيم التي تحفظ أصالة الزمان، حتى يمحو ذاكرته.
وهذا الانتهاك للقيم، على فظاعته القصوى، ليس إلا الأثر الخارجي لِـما يخطّط له في مشروعه الإبادي الشامل، إذ يهدف إلى إتلاف مأوى القيم نفسه، ألا وهو "الفطرة"! حتى لا يعود الإنسان قادرا على تمييز الخير من الشر، بل حتى يصير إلى إنكار القيم نفسها؛ فـ"الشر المطلق" لا يرضى إلا بـ"تَلَف الفطرة".
من هنا، يتبين وجه من وجوه الفرق في القوة بين "الشر المتجذر" عند "أراندت" و"الشر المطلق"؛ إذ "الشر المطلق" أقوى تأثيرا في القيم من "الشر المبتذل"؛ وهذا الفرق في قوة التأثير القيمي على رتبتين:
إحداهما، أن "الشر المتجذر" يهدف إلى محو القيم، بينما "الشر المطلق" يهدف إلى محو الفطرة، والفطرة محل القيم، وإذا فُقد المحلُّ، فُقد الحالُّ.
والرتبة الثانية، أن "الشر المتجذر" ينقض "العقد الاجتماعي"، محوِّلا الكائنات البشرية إلى كائنات "بلا اعتبار"، في حين "الشر المطلق" ينقض "الميثاق الإشهادي"، محوِّلا الكائنات البشرية إلى كائنات "بلا فطرة"؛ وواضح أن "فقْد الفطرة" يلزم منه "فقد الاعتبار"، لكن "فقْد الاعتبار" لا يلزم منه "فْقد الفطرة".
وعلى هذا، فإن "الشر المطلق" شرٌّ من "الشر الجذري"، فـ"الشر المطلق" شر متجذر، لكن "الشر المتجذر" ليس شرا مطلقا.
2.2.2. إبادة الأمانة؛ فقد سبق أن "حمل الأمانة يورّث الإنسان حريتين: "الحرية الأصلية" التي هي "حرية الاختيار" (قبل المواثقة)، و"حرية الموافقة للإرادة الإلهية" التي هي "حرية الامتثال" (بعد المواثقة)؛ و"الشر المطلق" يسلب الفلسطيني حرية الموافقة التي بها يفرِّغ ذمته من مسؤوليته أمام ربه، إن هدما أو احتلالا لبيوت العبادة، أو منعا لأداء المراسم والاعتكاف؛ كما يسلبه "الحرية الأصلية" التي يشترك فيها مع جميع الناس، لكي يجعله يفقد الشعور بالمسؤولية بالمرة؛ فـ"الشر المطلق" يسعى إلى القضاء على "الوعي بالمسؤولية" بوجهيها: "المسؤولية عن الامتثال" و"المسؤولية عن الاختيار"، وكلتا المسؤولتين تندرج في "الأمانة"؛ فيلزم أن "الشر المطلق" لا يرضى إلا بـ"انقباض الأمانة".
من هنا، يتبين وجه آخر من وجوه الفرق في القوة بين "الشر المبتذل" عند "أراندت" و"الشر المطلق"، إذ "الشر المطلق" أقوى تأثيرا في المسؤولية من "الشر المبتذل"؛ وهذا الفرق في قوة التأثير في المسؤولية، هو الآخر، على رتبتين:
إحداهما، أن "الشر المبتذل" يهدف إلى محو المسؤولية، بينما "الشر المطلق" يهدف إلى محو الأمانة، والأمانة أساس المسؤولية، وإذا فُقد الأساس، فُقد المؤسَّس عليه.
والرتبة الثانية، أن "الشر المبتذل" يحوّل الكائنات البشرية إلى كائنات "بلا افتكار"، في حين أن "الشر المطلق" يحوّل الكائنات البشرية إلى كائنات "بلا أمانة"، فضلا عن نقض "ميثاق الاستئمان"؛ وواضح أن "فقْد الأمانة" يلزم منه "فقد الافتكار"، لكن "فقْد الافتكار" لا يلزم منه "فقْد الأمانة".
وعلى هذا، فإن "الشر المطلق" شرٌّ من "الشر المبتذل"، فـ"الشر المطلق" شر مبتذل، لكن "الشر المبتذل" ليس شرا مطلقا.
3.2.2. إبادة المواثقة؛ لقد تقدم أن وجود المواثيق بين الناس يرجع إلى الأصل فيها إلى "المواثيق الإلهية"[10]، بحيث يكون "مبدأ المواثقة" هو الذي يُحدِّد ماهية الإنسان، كما تقدم أن المرابط الفلسطيني تحقق بالمواثيق الإلهية الكلية بما يجعله قدوة للعالم، إن حفظا للفطرة أو حملا للأمانة.
والحال أن "الشرّ المطلق"، وإن سعى إلى "إتلاف الفطرة"، فإنه لا يكتفي بهذا الإتلاف، بل يتعداه إلى إتلاف ذكرى الأصل الذي نشأت منه، حتى لا يؤدي تذكُّره إلى إحياء الفطرة، وهذا الأصل، كما سبق، هو "ميثاق الإشهاد"؛ كما أن الشر المطلق، وإن سعى إلى محو الأمانة، فإنه لا يكتفي بهذا المحو، بل يتعداه إلى محو ذكرى الأصل الذي نشأت منه، حتى لا يؤدي تذكُّره إلى إحياء الأمانة، وهذا الأصل، كما سبق، هو "ميثاق الاستئمان".
ومع كل هذا الإيذاء، فإن "الشر المطلق" لا يكف أذاه عن ضحيته، بل لا يزال يتعقب أدنى سبب للخير فيه، فيجتثه، وأدنى أثر للحق عنده، فيمحوه؛ فحينهاـ لا عجب أن ينتقل هذا النقض إلى نقضٍ أشد من نقض المواثيق الإلهية التي تلبست بها ضحيته، فضلا عن نقض المواثيق البشرية، ألا وهو نقض "مبدإ المواثقة" نفسه، كأن الإنسان لم يواثق ربه أبدا، ولا واثق أخاه الإنسان قط! ولما كانت المواثقة أساس كل معاملة، ظهر أن هدف الشر المطلق هو إلغاء الإنسان، مواثقةً ومعاملةً، بل، أدهى من ذلك، هدفه هو إلغاء معنى "الإنسانية"، حتى كأن الإنسانية لم تكن أبدا، ولا كان معناها قط.
مما تقدم، يتبين أن الفرق بين "الشر الأقصى" في صورة "الشر المطلق" وبين "الشر الأقصى" في صورتيه: "الشر المتجذر" و"الشر المبتذل" عند "أرندت" كالفرق بين الأصل والفرع.
فـ"الشر المطلق" ينشئ كائنا بلا ميثاق؛ وما كان بلا ميثاق، كان، بالضرورة، بلا فطرة، وبلا أمانة؛ بينما "الشر المتجذر" ينشئ كائنا بلا اعتبار؛ والكائن بلا اعتبار نظير الكائن بلا فطرة؛ وبذلك، يكون "الشر المتجذر" متفرعا على "الشر المطلق"؛ أما "الشر المبتذل"، فينشئ كائنا بلا افتكار، والكائن بلا افتكار نظير الكائن بلا أمانة؛ وبذلك، يكون "الشر المبتذل" متفرعا على "الشر المطلق".
2.3. التصدي الفكري للشر المطلق بوصفه أذى عالميا
لـما كان الشر المطلق إيذاء عالميا يصيب القريب والبعيد، عاجلا أو آجلا، وجب التصدي له عالميا، بحيث يتعين على كل الجهات والمؤسسات والمنظمات ذات النفوذ في العالم، كائنة ما كانت، أن تنهض بمسؤولياتها في دفعه، كل على قدر الطاقة وبكل وسيلة متاحة؛ ومن هذه الجهات "أهل الفكر"، فكيف يمكن أن يسهم هؤلاء في دفع الشر المطلق؟
معلوم أن عمل رجل الفكر عمل تنظيري؛ والعمل التنظيري يوجب الانطلاق من مسلَّمات محدَّدة قد تكون مشاهدات أو اعتقادات أو تقريرات، ثم البناء عليها في استنتاج قضايا يتم التأليف بينها في نسق متسق ومحكم بوسائل وتقنيات محددة؛ وتكون هذه القضايا المستنتجة عبارة عن حقائق ينبغي حفظها أو قواعد ينبغي اتباعها؛ فلنذكر بعض المسلمات والوسائل التي يتعين الأخذ بها في حالة التصدي لـ"الشر المطلق"، ولنسم تصدّي المرابط الفلسطيني له بـ"التصدي الأكبر".
1.2.3. مسلّمات التصدي الأكبر
نذكر من هذه المسلمات ثلاث:
أولاها، أن حالة التصدي الأكبر حالة نموذجية؛ معلوم أن نموذج الشيء يسدّ مسد الشيء نفسه؛ ولـمّا كان هذا التصدي الفلسطيني نموذجا للتصدي العالمي، فقد بات تصديا عالميا؛ وهذا يعني أن "العالمية" لا تقوم فقط في اشتراك كل الجهات في العالم، أفرادا وجماعات، في هذا التصدي لـ"الشر المطلق"، بل تقوم، بالأساس، في اتخاذ هذه الجهات التصديَ الفلسطيني نموذجا لها في تحديد تصدّياتها الخاصة لـ"الشر المطلق"، فتأتي كل جهة من هذه الجهات في العالم، من المواقف والأعمال ما تقتدي فيه بالتصدي الفلسطيني، مواقف وأعمالا، لأن عالمية "التصدي الأكبر" ثابتة بثبوت نموذجيته.
والثاني، أن التصدي الأكبر آية وليس مجرد ظاهرة؛ تُعرَّف "الظاهرة" بكونها عبارة عن شيء طبيعي ملحوظ يقبل أن يكون محل بحث موضوعي؛ فيُظنّ أن "الظاهرة" هي المعطى الأول الذي تتلقاه مدارك الإنسان؛ وليس الأمر كذلك، إذ المعطى الأول الذي تتلقاه هذه المدارك هو حقيقة تتداخل فيها الجوانب الموضوعية والذاتية كما تتداخل فيها الجوانب الواقعية والقيمية، وهي التي تُسمّى بـ"الآية"؛ وعلامة "الآية" أن تلقّي الإنسان لها يستثير وجدانه، إن إيجابا أو سلبا؛ وبقدر ما تشتد هذه الاستثارة، يَبُرز الثراء المعنوي لـ"الآية"؛ ولا تصدّي بلغ مبلغ "التصدي الأكبر" في هذه الاستثارة الوجدانية، إعجابا وإعظاما؛ أما "الظاهرة"، فإنما هي نتاج لعملية التجريد العقلي، إذ يجرِّدها العقل من الآية.
ج. أن الزمن الأخلاقي اليوم هو زمن المسلمين؛ لقد وقع "الشر المطلق" في زمن أخلاقي مخصوص، وهو "زمن المسلمين"؛ ذلك أنَّ لكل دين زمنَه الأخلاقي الذي يمتد من ظهور هذا الدين إلى غاية مجيء الدين اللاحق، بحيث يكون المتدينون به هم الذين يتعين عليهم، بالأساس، تحمّل مسؤولية التصدي لهذا الشر؛ وعلى هذا، فلما كان الزمن الأخلاقي الراهن هو زمن الإسلام، بحكم خاتمية هذا الدين، فقد وقعت مسؤولية التصدي، بالأصالة، على المسلمين، وبالتبَع، على غيرهم من الأمم الأخرى.
2.2.3. وسائل التصدي الأكبر
نذكر من هذه الوسائل الفكرية ثلاث:
أولاها، إخراج الفكر من حالة الجولان في الآفاق إلى حالة الرباط في الثغور؛ لقد اقترن "الفكر"، في الأذهان، بمعنى "جولان القوة الفكرية"؛ و"الجولان" يُشعر بأن الفكر يسرح في مجالاته من غير حدود، ولا حتى قيود؛ وواقع "الشر المطلق" يوجب أن يترك أهل الفكر "الجوْل" أو "السرْح" الذي لا يقيّد "الفكر" بشيء، وأن يرابطوا في مجالات فكرية مخصوصة، كل بحسب إمكاناته في البحث والتحليل والتنظير؛ وبيان ذلك من وجوه:
أحدها، أن "الشر المطلق" نسَف كل الحدود، ظاهرا وباطنا، حسّا ومعنى، فيتوجب إعادة إقامتها، لأن الحدود عبارة عن معايير التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ولا إمكان لإقامتها بغير المرابطة فيها، حتى لا ينفذ الشر منها.
والوجه الثاني، أن "الشر المطلق" بلغ من التكثُّر والتقلب ما لا تنفع معه ملاحقته في كل أشكال تكثُّره وتلوّنه؛ لذلك، يتعين ملازمة أحداث فاصلة وقضايا مصيرية يواجَه فيها بكل قوة؛ وهذه الأحداث والقضايا تنزل منزلة مواقع أو ثغور يُتوقع نفوذ أذاه منها؛ والمرابطة فيها من شأنها أن تُحدِث، في سياج هذا الشر، ثغرات تهز كيانه وتَـحدّ من توسّعه وتلوُّنه.
والوجه الثالث، أن "الشر المطلق" لا تفيد في دفعه إلا أسباب العمل؛ و"الفكر"، بخلاف "النظر"، يتصل بالعمل اتصالا ذاتيا، إذ بنيته عملية ووجهته عملية؛ ولا تبرُز هذه الحقيقة العملية للفكر بروزها في اتخاذه ثغورا فكرية يرابط فيها؛ إذ المرابطة توجب غاية الالتزام، ولا التزام بغير عمل؛ والفكر يُـمكنه أن يرابط في كل الثغور، حتى ولو تلك التي يخفى جانبها العملي، إذ مرابطته تجعل هذا الجانب العملي الخفي ينكشف للعيان، حتى كأن ميزة الفكر أن يتعقب مكنونات العمل في كل ثغر يرابط فيه؛ و"الشر المطلق" ينفذ إلى الأشياء الخفية، كالفطرة والوجدان والملكات، نفوذه في الأشياء الظاهرة كالمآثر والمساجد والممتلكات.
ب. إخراج الفكر من وصف "التفكير" إلى وصف "التفكر"؛ إن "الشر المطلق" آية سوء عظمى كما أن "التصدّي الأكبر" آية حسن عظمى؛ وهذه الصبغة الآياتية توجب فكرا يأخذ بخصوصيتها المعنوية، وإلا ضاعت فائدة الدعاوى والمسائل المقرَّرة بصددهما؛ لذلك، تعيَّن الخروج من نمط الفكر الذي أُخذ به إلى حد الآن، والذي اشتهر باسم "التفكير"، إذ ينحصر في تفحُّص الظواهر، مجرِّدا لها من الآيات، ولا يبالي بما ينطوي، في هذه الآيات، من القيم والمعاني؛ أما نمط الفكر الذي ينبغي الدخول فيه، فهو الذي يَردّ "الظواهر" إلى أصولها في "الآيات"، ونسميه بـ"التفكر"، وبيان ذلك من وجهين:
أحدها، أن "التفكر" في "الآيات" يفتح على آفاق معرفية وأبعاد ووجدانية لا يفتح عليها "التفكير" في "الظواهر"، فضلا عن استيعابه للمعرفة الخاصة بالظواهر؛ وليس هذا فحسب، بل إنه يوجّه هذه المعرفة الموضوعية بحسب معايير يضِيق عنها "التفكير"؛ فـ"التفكر" يتضمن المعرفة الحاصلة بـ"التفكير"، ثم يزيد عليها بالتسديد الذي يُلزمها به.
والثاني؛ أن "التصدي الأكبر" يتجلى بأفعال وأحوال خاصة لا يمكن أبدا إقصاؤها من التحليل والاستنتاج، وإلا دخل عليهما الفساد، فلا عبرة بنتائجهما؛ فمثلا، "تحمُّل الأذى" و"التهيؤ للاستشهاد" و"تلاوة القرآن" و"التكبير" و"التهليل" و"التحميد" وغيرها كثير لا يمكن إسقاطها من الحسبان، لأن هذه الأفعال والأحوال هي، بالذات، السر في حصول "المدافعة" و"المصامَدة" و"المصابرة" بأشكال ووجوه لا تضاهى لدى المرابطين الفلسطينيين، وذلك لأنها تورّث أسبابا روحية لا تحصُل الإنسان بغير طريقها؛ وهذه الأسباب الروحية لا يعقلها "التفكير" ولا يطيقها، ولا يفيده مطلقا أن يتجاهلها أو ينكرها؛ لذلك، لا مناص من الاستغناء عنه بـ"التفكر"، وإلا بُخس "التصدي الأكبر" حقَّه، فضلا عن الإعراض عن الحقيقة.
ج. تحصيل جهاز جديد من المفاهيم، إبداعا وتوظيفا؛ الثابت أن الفكر لا يتجدَّد أو يتَّسع إلا بمزيد الإبداع للمفاهيم الجديدة، وإلا فلا أقل من إسناد دلالات جديدة للمفاهيم السابقة؛ وإعمال الفكر في التصدي الأكبر يوجب الإبداع المفهومي من جهتين:
إحداهما، أن التأمل في هذا التصدي يَقفنا على معان جديدة، ويدعونا إلى تصورات غير مسبوقة كتلك المعاني والتصورات التي تتعلق بالخلوة في النفق أو تتعلق بالحياة اليومية تحت القصف أو تتعلق بعلاقات المرابطين بأهاليهم.
والثانية، أن "التفكر" طريق جديد في الفكر أوجبه انكشاف حدود "التفكير"، فلا يغني "المتفكر" أن يقتبس مفاهيمه من الرصيد المفاهيمي الهائل لـ"التفكير"، حتى ولو عمد إلى صرفها، جزئيا أو كليا، عن معانيها الأصلية، نظرا لأن ذلك يبقيه على التبعية لـ"التفكير" كما يفقده القدرة على إثارة الاهتمام به والتطلع إلى تحصيله؛ لذلك، لا بد من أن يُبدع المتفكر من عنده مفاهيم جديدة تحمل تصورُّات دقيقة للحقائق الحية التي تخص "التصدي الأكبر" ودلالات عميقة للآفاق الآياتية التي يفتحها، بحيث يجد فيها من يتلقاها توسيعا لدائرة فهمه ومجال معرفته، بل توسيعا لنطاق عقله.
وهكذا، تكون هذه المفاهيم المبدِعة بمنزلة الجهاز التصوري الذي يُـميّز "التفكر"، بحيث يُلجأ إليه عند الشعور بنفاد "التفكير" أو عند تبيّن قصوره؛ ومثال ذلك الجهاز المفاهيمي الائتماني الذي لا نزال ننشئه، إذ يتضمن مفاهيم لم يسبق إليها مثل "الزمن الأخلاقي" و"التسديد" و"التفطير" و"التفكر الأول" والتعهد الأول".
د. تجديد القيم والمعاني الفطرية، إحياء وتوليدا؛ الثابت أنه لا شيء من أعمال "التصدي الأكبر"، ولا أحواله، يخلو من القيم الأخلاقية التي توجّهها أو من المعاني الروحية التي ترتقي بها، حتى كأن هذه الأعمال والأحوال لا تصدُر عن المرابطين الفلسطينيين بمحض إراداتهم وقدراتهم ومهاراتهم، وإنما بفضل إمدادات وهدايات لا تُرى للعيان، ولكن يستيقنها الوجدان؛ فهذه الأعمال والأحوال أشبه بالمعجزات منها بالبطولات.
فيتعين على المتفكر أن يقف على هذه القيم والمعاني المتميزة، متتبعا مظاهرها وآثارها، بل، أهم من ذلك، عليه أن يردّها إلى مصادرها في الكمالات الإلهية، انطلاقا من الأسماء الحسني، إذ أن هذا الردّ يجعله يجدد الصلة بهذه الكمالات، بل يجعله يوثّق هذه الصلة؛ وفي توثيق هذه الصلة، تتكشف له وجوه جديدة في القيم والمعاني التي وقف عليها، بل تنفتح له إمكانات أخرى في اشتقاق مزيد من القيم والمعاني من هذه الكمالات، حتى تجتمع له حصيلة من القيم والمعاني الفطرية تميز هذا التصدي العجيب عن غيره من صور التصدي للتحديات الوجودية.
ه. بث المفاهيم التفكرية والقيم الفطرية في العالم؛ لا يقف دور المتفكر عند حد اختراع المفاهيم الإجرائية ولا اكتشاف القيم الفطرية، وإنما عليه أن يبثها في الناس على أوسع نطاق ممكن، وذلك لأسباب عدة:
أولها، أن العالم، ولو أنه لا يزال مستغرِقا في نمط "التفكير" المعهود، فإنه أخذ، بسبب ما أدَّى إليه هذا النمط الفكري من تسيّب تقني وتميع قيمي، يتطلع إلى نمط جديد من الفكر يدفع عنه هذا التسيب والتميّع، بحيث يكون أكثر استعدادا لتقبل مفاهيم وقيم "التفكر".
والثاني، أن "العالم" كلَّه بات يحيا حالة أشبه بحالة "غزة"، فتكون حاجته إلى "التفكر" لا تقل عن حاجتها إليه؛ إذ أضحى "الشر المطلق" يحاصر العالم، هو الآخر، بل يعتقله كما اعتُقلت "غزة"، حتى عُطِّلت الإرادات في زعاماته، قريبها وبعيدها، فلم تَعُد تثيرها مفاسده الوحشية، بل جُمِّدت العقول في مثقفيه، علمائه ومفكريه، فلم تَعُد تستفزها إبادته الجذرية.
والثالث، أن "المتفكر" المسلم مطالَب قبل غيره بأن يبادر بالتعريف بما عنده من وسائل الفكر في "التصدي الأكبر"، وذلك لاعتبارين: أحدهما، أن هذا التصدي وقع في جزء من أمته، أرضا وشعبا، فلا أقرب منه إلى هذا التصدي، عقلا ووجدانا، وهذا القرب يوجب عليه عدم كتمان ما عَلمِ؛ والثاني، أن قانون الزمن الأخلاقي يقضي بأن تكون مسؤولية المتفكر المسلم في هذا الشأن سابقة على مسؤولية غير المسلم، لأن "الشر المطلق" وقع في زمنه الأخلاقي، ولم يقع في سواه، فضلا عن واجبه في الإسهام في تخليق العالم إلى جانب غير المسلم؛ وتخليقُ العالم على مقتضى الزمن الأخلاقي بات قائما في إنقاذ العالم مما يترصده من مفاسد "الشر المطلق".
وحاصل الكلام في هذه المداخلة أن مفهوم "الشر المطلق" أقوى مفهوم "الشر المتجذر" عند "كانط" ومفهوم "الشر المبتذل" عند "أراندت"، إذ ينزلان منه منزلة الفرع من الأصل، بحيث يمكن استنباطهما منه، إذ أن "الشر المتجذر" يقوم على مخالفة "القانون الأخلاقي"، وا"لشر المبتذل" يقوم على مصادرة "مبدأ التفكير"، بينما "الشر المطلق" يقوم على نقض "مبدإ المواثقة الإلهية"، ولا شرَّ من هذا النقض.
وتتجلى شرِّيته القصوى في إباديته الجذرية التي اتخذت صورا ثلاثا، وهي: "إبادة الفطرة" و"إبادة الأمانة" و"إبادة المواثقة"؛ وقد تولى المرابط الفلسطيني التصدي له بكل قوة، مجددا القيم ومحررا الإنسان في العالم.
ويتطلب هذا التصدي الأكبر فكرا متميزا يكون على قدره له مسلّماته ووسائله الخاصة؛ أما مسلماته، فهو أن التصدي الأكبر عبارة عن آية خير عظمى، وأنه نموذج لغيره من أشكال التصدي، وأنه واقع في الزمن الأخلاقي الإسلامي؛ أما وسائله، فتتمثل في اتخاذ الثغور الفكرية، وإحداث نمط التفكر بديلا من نمط التفكير، وإنشاء جهاز من المفاهيم التفكرية، وإحياء المعاني والقيم الفطرية، ونشر هذه المفاهيم التفكرية والقيم الفطرية على نطاق العالم.
[3] انظر كتابه: الدين في حدود العقل.
[4] المقابل الإنجليزي: Superfluousness
[5] انظر كتابها: جذور الشمولية.
[6] المقابل الإنجليزي: Thoughtlessness
[7] انظر Richard BERNSTEIN: "Arendt: Radical Evil and the Banality of Exil", p. 207
[8] انظر R. BERNSTEIN: "Reflections on Radical Evil: Arendt and Kant", p. 18
[10] وهي على نوعين: "المواثيق الكلية" (مثل "ميثاق الإشهاد" و"ميثاق الاستئمان") و"المواثيق الخاصة" (كالمواثيق التي تعلَّقت بالنبيين عليهم السلام)