الأصول والمقاصد
لقد اختار معهد الفكر الإسلاميِّ موضوعَ الأصول والمَقاصِدِ مجالاً بحثيّاً له الأولويَّةُ؛ لأنَّ علم الأصول - حين يتمُّ أخذُ عمليَّةُ نشوئِه وتطوُّره التَّاريخيِّ بالاعتبار - ليسَ مُجرَّدَ علمٍ يعتني بإنتاجِ قواعد الفقه وبناء أُسُسِها، فعلم الأصول علمٌ هامٌّ يرسُمُ حدودَ المَشروعيَّةِ في إنتاج المَعلوماتِ الدِّينيَّة، ويُشكِّلُ أرضيَّةَ الأفكار التي يضعُها المُسلِمون على المُستوى الفلسفيِّ في مجال الفقهِ والأخلاق، والحفاظ على وظيفة الأصول في التَّحكُّم والتَّحقيق يكمنُ في الحفاظ على أهمِّيَّتها، لقد نشأ علم الأصول باعتبارِهِ علماً يهدف إلى إنتاجِ الفقه قبل كلِّ شيءٍ، وتدوينُ قواعد الأصول حصلَ بعد الفقه، وأولى الكتبِ النَّاضجة لهذا العلم صدرت في مطالِعِ القرن الرَّابع الهجريِّ، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الأذهان في العهود السَّالِفَةِ كانت تخلو من الفكرِ المُوجّهِ للمَنهجيَّة، فالأحكام الفقهيَّة التي ظهرت نتيجةَ الاجتهاد في العصور الثَّلاثة الأولى تمَّ الحصول عليها بالقواعد المَنهجيَّةِ التي اكتَسَبت في ما بعدُ أبعاداً أكثرَ تقَنيَّةً بعد أنْ أخذت طابَعاً مَنهجيّاً في أدبيَّات الأصول.
وبما أنَّ أصولَ الفقه تؤدِّي وظيفة مُحدِّد الإطار وواضع القواعد والقائم بالتَّحكُّم، فإنَّها شكَّلت أرضيَّةً شرعيَّةً ليس لعلم الفقه فحسب، بل للبياناتِ التي قدَّمَتها العلوم الدِّينيَّة الأُخرى أيضاً، فهو الذي عيَّنَ حدود التَّحدُّثِ باسم الدِّين إلى حدٍّ ما، وتمَّت الاستعانة دائماً بقواعد الأصول لفهم القرآن والسُّنَّة، وتفسير الآياتِ والأحاديث، وتمَّ الرُّجوع إلى قواعد الأصول في تقييم النُّصوص في المسائل الكلاميَّة من حيث الثُّبوت والدَّلالة، لهذا السَّبب، لم يتمَّ الاعتراف بشرعيَّةِ التَّقييماتِ التي لم تُوافِق عليها قواعد الأصول التي باتَت إطاراً مرجعيّاً مُشتَركاً للمُسلِمين.
لقد حاول علم الأصول أنْ يرسمَ باستمرارٍ الإطار الذي يمكن أنْ يتحرَّكَ فيه عقل الإنسان بحُرِّيَّةٍ للحصول على الأحكام الدِّينيَّة وتفسير النُّصوص، ضَيَّقَّ في ذلك من ضَيَّقَ، ووَسَّعَ من وَسَّعَ، انطلاقاً من طبيعة الإنسان واللُّغة والنَّصِّ. بناءً عليه، يمكننا الحديث عن إطارٍ ربَّما يعطي مكاناً لمقارباتٍ مُختَلِفةٍ، ولا يلتَزِمُ خطّاً واحداً ضمن تقليد الأصول. وفي ظلِّ دعواتِ الاجتهاد التي تزايَدَ تأثيرُها في العالَمِ الإسلاميِّ في نهايات القرن التَّاسع عشر؛ تمَّ العمل على تحميلِ أصولِ الفقه وظيفةً مَنهجيَّةً للاستعانة بها في حلِّ المسائل الجديدة، ووجهة النَّظر هذه التي تميلُ لتقييم الأصول على أنَّها طريقةٌ لاستخراج الأحكام من النُّصوص بشكلٍ مُباشِرٍ، لم تبلغ نَتائِجَها المَرجوَّةَ؛ لأنَّ هَدَفها لم يكن يتوافَقُ مع هدف تأسيس أصول الفقه، ومن أجل الحصول على هذه النَّتائج تمَّ تسليطُ الضَّوء على تجديد علم أصول الفقه، بعبارةٍ أُخرى تمَّ العمل على تحويل علم أصول الفقه إلى علمٍ مَنهَجِيٍّ قادرٍ على إيجاد حلولٍ للمسائل.
وكما أثَّر دخول العالَمِ الإسلاميِّ في فترة الحداثة في العديد من المَجالاتِ؛ أدَّى كذلك إلى نشوءِ مَشاكلَ هامَّةً في عالَمِ الفكر الإسلاميِّ، والمشكلة التي صودِفَت في المقام الأوَّل تَجلَّت في العمل قدر المُستَطاعِ على التَّحكُّمِ بعمليَّةِ التَّغيُّرِ الضَّخمة التي لا يمكن إيقافها، وإدارتِها/تَوجيهِها على أرضيَّةٍ شرعيَّةٍ حسب ثوابت الإسلام التي لا تتغيَّرُ، وفي هذا السِّياق كان لا مناصَ من أنْ تتناول الأجندات مَطالِبَ التَّغيير في مجالِ الأحكام الفقهيَّةِ نتيجةَ تغيير الأوساط المُجتَمَعيَّة التي ظهر فيها جانبٌ كبيرٌ من هذه الأحكام.
وكانت إحدى الأولويَّاتِ في هذا الإطار فكرةُ الاستفادة من أصول الفقه كمَنهجيَّةٍ مُناسِبَةٍ لاستنباط أحكامٍ جديدةٍ، ولكنَّ خطَّ التَّيَّارِ الرَّئيسيِّ لأصول الفقه الذي يُشكِّلُ كما ذكرنا أعلاه نظريَّة المذهَبِ والذي تَطغى عليه وظيفَةُ التَّحكُّمِ وتحديد الإطار في العمليَّة التَّاريخيَّة؛ لم يكن مُواتياً لتكوين مَنهجيَّةٍ تُؤَمِّنُ التَّجديد المَرجُوَّ، فالتَّيارُ الرَّئيسيُّ لأصول الفقه (الشَّافعيُّ/الأشعريُّ) يَنظُرُ إلى مفهوم "الاستحسان" عند الحنفيَّة ومفهوم "المَصلَحة" عند المالكيَّة، واللَّذَينِ يبدوان الأصلح لتحقيق التَّغييرِ؛ على أنَّهما أصلانِ مَردودانِ أو مُختَلَفٌ عليهما، ولهذا السَّبب تحديداً تردَّد الكلام الكثير عن حاجة الأصول للتَّجديد، وعندما لم يتحقَّق ذلك، تمَّ الإشارة إلى أمورٍ بدت مُواتِيَةً لتجديد الأصول، بموقِفٍ براغماتِيٍّ؛ لأنَّ الهدف يتمثَّلُ في الحلول المَلموسَةِ.
ونجمُ الدِّين الطُّوفي الذي اقترح تقديم المَصلحة على النَّصِّ باعتبارها غايةَ الشَّارع الكُلِّيَّةِ لَقِيَتْ آراؤه في هذه الفترة وللمرَّة الأولى اهتماماً بالغاً في العالَمِ الإسلاميِّ، فتمَّ تقديم العُرفِ والقواعد الكلِّيَّة التي لم تجد لها مكاناً قويّاً في الأصول الكلاسيكيَّة؛ كأدلَّةٍ ومصادِرَ لاستنباط الأحكام، وذلك بفعل حركةِ مجلَّة الأحكام العدليَّة. وقيل إنَّ الأصول الكلاسيكيَّة يجب استعمالُها في موضوع العبادات، واقتُرِح تأسيس فرعٍ جديدٍ من أجل المُعاملات تحت مُسمَّى أصول الفقه الاجتماعي. ولكنَّ هذا المُقتَرَح كان من النَّوع الذي يستطيع على الأكثر تشكيل أرضيَّةٍ شرعيَّةٍ فقهيَّةٍ لبعض التَّغيُّراتِ التي لا يمكن إيقافها. من جانبٍ آخرَ، كان لهذه المُقتَرَحاتِ حقيقةٌ ملموسةٌ، وهي أنَّ أصول الفقه كان لها تأثيرها في المُجتَمَعاتِ المُسلِمة والتَّفكير الفقهيَّ، نظراً لبُنيَتِها التَّحكُّميَّة، وتمَّ تقييد مفهوم "الرَّأي" المُستَعملِ بشكلٍ أكبرَ عند الصَّحابة وجيل الفقهاء أثناء عمليَّة تشكيل كُلِّيَّاتِ الفقه.
عندما فشلت محاولاتُ البحث التي بدأت داخل الأصول، انطلقت محاولات بحث التَّغيير خارج الأصول، فطالَ الجدل والنِّقاش نظام الأدلَّة وتسلسُلَها الهرميَّ في الإسلام، وهيمَنَ غياب الأصول على الفكرِ الدِّينيِّ، وفي هذا الإطار نذكر كمثالٍ عن البحث خارج الأصول، السَّلفيَّةَ الجديدةَ التي تقرأُ النُّصوص الدِّينيَّة كما تقرأُ النُّصوص القانونيَّة، وتتجاهَلُ فلسفَةَ الأصول وتنتَقِدُ العقلَ والقِياسَ والمَصلَحَةَ والاستحسان، وتحطُّ من شأن الوحي إلى المُتونِ اللِّسانيَّة، وتكتَفي بالتَّفسير اللَّفظيِّ والظَّاهريِّ للنَّصِّ وتتَّخذُه أساساً، وتَفهَمُ السُّنَّةَ على أنَّها شكلٌ تمَّ إعداده وعيشه. ونذكر كذلك التَّاريخانيَّة التي تقرأ الوحي على أنَّه نِتاجُ الثَّقافة التي يُخاطِبها؛ في محاولةٍ للخروج عن الأصول. واليوم مع الأسف يعجُّ العالَمُ الإسلاميُّ بمُحاولاتِ الخروج عن الأصول تحت أفهامٍ دينيَّةٍ مُختَلِفَةٍ. وبالتَّالي يبقى السُّؤال التَّالي: "كيف يجب أن يكون علم الأصول في يومنا؟" مسألةً هامَّةً تستحقُّ الإمعان والتَّفكير.
بدايةً يجب التَّأكيد على أنَّ المعنى الظَّاهريَّ للنُّصوص تمَّ فهمه من قِبَلِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه الكرام، وتم الحفاظ على هذا المعنى بجميع فروقاته المُحتَمَلة (الظَّاهر، النَّصُّ، الحقيقة، المجاز، إلخ) اعتماداً على قواعد اللُّغة في علم الأصول. ولم يُسمَح إطلاقاً للاتِّجاهاتِ الظَّاهريَّة والباطنيَّة بالضغط على هذا الإطار، وتمَّ تحديد نقاط الاتِّفاق والاختلاف في فهم النُّصوصِ. ولا ننسى أنَّ العمل تحت تأثير أفهام العصر في وقتنا الحالي، وتحميل النُّصوص معاني مُختَلِفةٍ بالضَّغط على حدود اللُّغة ودون اعتبارِ هذا الإطار، يُمكِنُه أنْ يكونَ ضرباً من الباطنيَّة، ناهيك عن كونه يُمثِّلُ تضارُباً علميّاً. من ناحيةٍ أُخرى، تسير الأفهام التي تبحثُ عن مُرادِ الشَّارع في المعنى الحرفيِّ للَّفظِ، وتَتَجاهَلُ التَّشبيه والتَّمثيلَ في اللُّغة، ولا تأخذ بالسِّياقِ وأسبابِ النُّزولِ والوُرودِ؛ فتَتَحرَّكُ خارج الإطار الذي ترسمه الأصول. بناءً عليه، نرى أنَّ اجتهاداتِ البيان والقياسِ لأصول الفقه غير كافيةٍ للرَّدِ على مسائل عصرنا، وأنَّه يجب تطوير اجتهاد الاستصلاح في ضوءِ المقاصِدِ. وعدمُ اتِّباعِ هذا الطَّريق وتحميلُ النُّصوص معاني لا تحتملُها يؤدِّي إلى المشاكل التي أشرنا إليها. غير أنَّ أصول الفقه تُبدي نفسَها هنا بخاصِّيَّتها التَّوجيهيَّة، ولا تَقبل هذا النَّوع من التَّفسيرات السَّاذَجَةِ، ولكنْ إنْ كانت هناك رغبةٌ في تحويل الأصول إلى مَنهجيَّةٍ تستطيع الرَّدَّ على مسائل عصرنا الحاليِّ؛ فلا بدَّ أنْ نتناوَلَ "المقاصِدَ" من جديدٍ باعتبارها علماً.