الوحدة في العلوم الإسلامية

 

إنَّه ما من شكٍ أنَّ خَلْقَ الله تعالى والدِّينَ الذي أرسله إلينا يخلُوان تماماً من اللَّغوِ (بلا معنى) والسَّهوِ (بلا غاية) واللَّهوِ (بلا فائدة) والعَبَثِ، لكنَّ ما لدينا من قلَّةِ الفهمِ وخطأ التَّفسير يمكنه أنْ يقودَنا إلى الاشتغال بالعَبَثِ، والذي ينقذنا من الاشتغال بالعبث هو الفهم الصَّحيح للمقاصِدِ. وغايتنا من المقاصِدِ - كما أسلفنا - ليست مقاصِدُ الشَّريعة فحسب، بل جميعُ المَقاصِدِ الدِّينيَّة مثل مقاصِدِ التَّكوين، ومقاصِدِ العِمران، ومقاصِدِ التَّنزيل، ومقاصِدِ القرآن، ومقاصِدِ السُّنَّة، ومقاصِدِ التَّكليف.

وتفصيلُ الفهم المُتعلِّق بالمقاصد وتطويرهُ شرطٌ ضروريٌّ سواءٌ من أجل تقييم قابليَّةِ تطبيق الأحكام الموجودة في أدبيَّات الفقه، أو من أجل إيجاد حلولٍ للمسائلِ المُستَجِدَّة. وبما أنَّ الأقسامَ الثَّلاثةَ للمقاصد (الضَّروريَّات والحاجيَّات والتَّحسينيَّات)، وجمع الضَّروريَّات في خمس موادٍ (حفظ الدِّين والنَّفس والنَّسل والعقلِ والمال) مسائلُ اجتهاديةٌ، فإنَّ تطوير هذا المجالَ ممكنٌ وضروريٌّ.  فإلى جانب هذه الأُسُسِ الخمسةِ لا بدَّ من التَّأكيد على ضرورة إضافة مواضيعَ أُخرى، مثل: الحفاظ على كرامةِ الإنسان، وحُرِّيَّاتِهِ الأساسيَّة، وتحقيق العدالة، ومُحارَبَةِ الفقر، وتأمين التَّضامُنِ الاجتماعيِّ، والتَّوزيع العادل للدَّخل، وتوزيع الثَّروات على كُتَلٍ واسعةٍ، وتحقيق السَّلام في العالَمِ، وضمان الأمنِ. والقيامُ بهذه الأعمال ممكنٌ في إطار علم الأصول، وبناءُ فرعٍ خاصٍّ تحت مسمَّى علم المقاصد ممكنٌ أيضاً، وحين يتمُّ تطوير الأصول في قسم المقاصِدِ من حيث ماضيها العريق في تقليد الإسلام، يمكن التَّفكير في إثرائها بحيث تَشمَلُ أيضاً الفقه الإسلاميَّ وفلسفة الأخلاق.

ثمَّةَ أمرٌ آخرُ ينبغي تَناوُلُهُ مع المقاصِدِ، وهو مسألة تَغيُّرِ الأحكام. فهذا الموضوع تمَّ تناوُلُه في أدبيَّاتِ الفقه في سياقِ مسائلَ مُعيَّنةٍ، ولكنْ إنْ كانت هناك رغبةٌ في أنْ تكونَ القِيَمُ الإسلاميَّة مُؤَثِّرَةً في حياة المُسلِمين، لا سيَّما في وقتنا الحاضر، فلا بدَّ من تقييم هذا الموضوع بشكلٍ مُمَنهَجٍ عن طريق لجانٍ علميَّةٍ، وضَمِّه إلى بُنيَةِ الأصول باعتبار صِلَتِهِ بالمقاصِدِ والاجتهاد، تفادياً للانحراف عن ثوابت الدِّين. وفي هذا السِّياق أيضاً يجب تناول الأحكام الثَّابتة بالنَّصِّ تحديداً، وهل سيستَمِرُّ تطبيق الحكم الثَّابت بالنَّصِّ في حال عدم تحقيقهِ الهدف الذي شُرِّعَ من أجله أم لا؟ وقد رأينا بعض المُؤلِّفينَ يتناوَلونَ هذه المسائِلَ جُزئيّاً في بُنيَةِ الأصول.

هناك ثلاثة قواعدَ تَلفُتُ الانتباهَ في هذا السِّياق من حيث ديناميكيَّة الفقه الإسلاميِّ: "لا يُنْكَرُ تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان"، و"يدور الحكم مع علته وجوداً وعدماً" أي "ينتفي الحكم المَبنِيُّ على عِلَّةٍ غائِيَّةٍ بانتفاءِ عِلَّتِهِ"، "إذا أفاد الحكم غير غايته عاد إلى ضده"، وبعبارة أخرى "الحكم المَشروعُ لاستحصال فائدةٍ، في حال أدَّى إلى ضدِّه عند التَّطبيق يكون باطلاً".

بناءً على هذه المبادئ فسَّرَ فقهاء المذهب الحَنَفيِّ تَغيُّرَ عددٍ من الأحكام في عهد الخليفة عمرَ رضي الله عنه. ولو تمَّ تناوُلُ تغيُّر الأحكام في بُنيَةِ الأصول في سياقِ المَقاصِدِ والاجتهاد؛ لأَمكَنَ مناقَشَةُ الموضوع على أرضيَّةٍ أكثر مَتانَةً، بعيداً عن الشَّخصنةِ، ولا يمكن التَّفقُّه في مسائل العصر إذا ما تمَّ إهمال هذا الموضوع. وحينها لا مفرَّ من ظهور نوعٍ من المُسلِمين الَّذِينَ يعانون من تشوُّشٍ في الذِّهن والفعل، نتيجة امتلاكهم شخصيَّةً مُزدَوجَةً، تُؤْمِنُ بضرورةِ الحفاظ على النِّظام بالوفاء، لكنهم يعيشون في الواقع حسب القِيَمِ العلمانيَّة. والمخاوِفُ المُتعلِّقة بهذا الموضوع ينجُمُ أساساً من خوف هجران النُّصوص تحت مسمَّى "المقاصِدِ". والدِّراسات التَّخصُّصيَّة التي جرت حول المقاصِدِ في القرن العشرين تضع أمام الأنظار المخاوفَ التي عاشها المُسلِمون، والدِّراسات الجديدة في هذا الموضوع لا تسمح بتعدِّي الإطار الكلاسيكيِّ الذي ترسُمُه الأصول. وقد بلغ الأمرُ بالسَّلفيِّين الَّذِينَ يحبِسون الفكر الإسلاميَّ في قوالِبِهم الضَّيِّقة أنْ أطلقوا على "المقاصِدِ" اسم "المفاسِدِ".

وقد قال ابن القَيِّم قبل عصورٍ مضت: "إِنَّ الشَّرِيعَة مَبناها وأساسُها على الحكم ومَصالِحِ العِبادِ، فِي المَعاشِ والمَعادِ، وَهِي عدلٌ كُلُّها، وَرَحْمَةٌ كُلُّها، ومصالحٌ كُلُّها، وَحِكْمَةٌ كُلُّها، فَكلُّ مَسْأَلَةٍ خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلى ضدِّها، وَعَن المصلحَة إِلَى المفسدَة، وَعَن الحِكْمَة إِلَى العَبَث فليست مِنَ الشَّريعَة، وإنْ أُدخلتْ فيها بالتَّأويل، فالشَّريعة عدلُ الله بَين عباده، وَرَحمته بَين خلقه، وظِلُّه فِي أرضه، وحكمَتُه الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى صدق رَسُوله صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّم أتمَّ دلَالَة وأصْدقها". والعمل المُترتِّبُ هنا هو التَّعبير عن رحمة الدِّين وحكمته وعدالَتِه ومصلحته بلسانٍ بَيِّنٍ واضحٍ للأفهام.

وقبل الفراغ من المقاصَدَ نودُّ الإشارة أيضاً إلى هذه المسائل المُتعلِّقة بأصول الفقه:

1)      ينبغي الحفاظ على سقفِ علم الأصول وتقليدهِ الأساسيِّ، والحفاظ على قواعد اللُّغة. وقد سبق البيان بأنَّ القواعد التي طوَّرتها الأصول فيما يتعلَّق بتفسير النُّصوص يمكن تطبيقها على بُنيَةِ كلِّ لُغَةٍ. وهنا ينبغي تفضيل الدَّلالة الحقيقيَّة على الدَّلالة الإضافيَّة، ودلالة العِبرَةِ على دلالة العِبارَةِ، أي تفضيل الدَّلالة الحقيقيَّة التي تتَّخذُ المقاصِدَ المُستَنبَطَةَ من جميع النُّصوص أساساً؛ على الدَّلالة الإضافيَّة التي تستَنِدُ على ألفاظ النُّصوص وعلى استنباط الأحكام من الألفاظ.

2)      في الأبحاث المُتَعلِّقَةِ بالحكم في أدبيَّات أصول الفقه يتمُّ الحديث عن فلسفة الأخلاق والفقه الإسلاميِّ. ويظهر عددٌ كبير من المُؤلِّفين على مرِّ التَّاريخ يَعْرِضونَ مُقارَباتٍ تستحقُّ الذِّكرَ في هذا المجال. ويمكنُ تناوُلُ موضوع العدالة بالتَّفصيل في موضوع الحُسنِ والقبح أو في سياق المقاصِدِ. ويمكن في هذا الإطار تناوُلُ كرامة الإنسان وحصانَتِهِ لعلاقته بفكرةِ الحقِّ أو مفهوم العِصمَةِ الذي يلجأ إليه الأُصوليُّون الأحناف عند تأسيسهم لمَسؤوليَّة الإنسان. ويمكن كذلك إعادة تقييم مفهوم حقوق الإنسان في هذا السِّياق. وفي النَّتيجة يمكن للقسم المُتعلِّق بأبحاث الحكم في علم الأصول أنْ يُشكِّلَ أرضيَّةً مُناسِبَةً للمسائل التي يُمكِنُ تناوُلُها تحت عنوان الفقه الإسلامي وفلسفة الأخلاق. وفي هذا الإطار ينبغي إعادة تَناوُلِ العلاقة بين الأحكام والأخلاق، وألَّا ننسى أنَّ "الأخلاق عقل الأحكام".

3)      من الواضح أنَّ اجتهادات البيان والقياس تملك إمكاناتٍ مَحدودَةً للإجابة على مسائلِ وقتِنا الحاليِّ. وفي هذا السِّياق ينبغي تعزيز فكرة المقاصِدِ، والتَّركيز على اجتهاد الاستصلاح، فمفهوم المقاصِدِ في نظام الأصول الكلاسيكيِّ ظهر في سياق تقسيم "الوصف المناسب"، والتَّقسيم الخُماسيُّ الذي طوَّره الجُوَينِيُّ تمَّ جمعه عند الغزَّاليِّ تحت ثلاثة عناوينَ هي الضَّروريَّات والحاجيَّات والتَّحسينيَّات، وتمَّ حصر الضَّروريَّات في خمس موادٍّ رئيسيَّةٍ تتجلَّى في الحفاظ على الدِّين والنَّفس والنَّسل والعقل والمال. ودرس الشَّاطبيُّ هذا الموضوع بتفصيلٍ، لكنَّ ما فعله لم يتمثَّل في تطوير مَنهجيَّةٍ جديدةٍ اعتماداً على المقاصِدِ، بل كان ما قدمه بياناً لكيفيَّة مُراعاةِ المقاصِدِ في الأحكام الموجودة. في هذه الحال، يجبُ الوقوف عند السُّؤال التَّالي: كيف يمكن تطوير فكرة المقاصِدِ التي حاول تطويرها العديد من العلماء بعد الشَّاطبيِّ من أمثال الطَّاهر بن عاشور، وعلَّال الفاسيِّ، وجمال الدِّين عطيَّة، وأحمد الرَّيسوني؟

والمهمُّ هنا هو كيف يتجلَّى فهم المقاصِدِ في حياة المُسلِمين وعلاقاتهم. فتناول الأخلاق على وجه الخصوص باعتباره مبدأً من مبادئ المقاصِدِ؛ يحمل أهمِّيَّةً كبيرةً. ومشروع "تخليق المقاصِدِ" (أي تحويل الأخلاق إلى حالة المقاصِدِ، أو إضفاء الأخلاق على المقاصِدِ) للمُفكِّرِ المغربيِّ طه عبد الرحمن؛ هامٌّ من هذه النَّاحية.