القيمة، الأخلاق، والجماليات

 

يمكنُنا القول إنَّ البشريَّة على صعيد العالَمِ تعيش اليوم أزمةَ المَعنى، وهذه الأزمة جلبت معها أزمةً أخلاقيَّةً أيضاً، والسَّبب الأكبر في أزمة الأخلاق هو القِيَمُ التي تجعل التَّصرُّفاتِ أخلاقيَّةً، والجدل الدَّائرُ حول هذه القِيَمِ أو مَصادِرها. وضياع التَّرتيب الهَرَمِيِّ للقِيَمِ أفضى إلى أخطاءٍ كبيرةٍ لا تقلُّ عن الأخطاء النَّاتجةِ عن ضياع القِيَمِ ذاتِها. والأنكى من ذلك، تبديل أماكنِ القِيَمِ، واعتبار الحَسَنِ قبيحاً، والقبيحِ حَسَناً، والتَّبادُلُ بين المُفيدِ والضَّارِّ، والحقِّ والباطل. والخطأ الأكبر من هذا كلِّه هو أنَّ الفسادَ بدأ يحمل ماهيَّةً دينيَّةً، ويتمُّ العمل على إيجاد مَسنَدٍ من الدِّين لتصرُّفاتِنا غير الأخلاقيَّة، أو تحويل الأمور غير الأخلاقيَّة إلى دينٍ. وبعبارةٍ أُخرى، فَهْمُ الدِّين المُرسَلِ إلينا لتعليمنا الأخلاق الحميدَةِ فَهْماً يجعله دليلاً لتَصرُّفاتِنا غير الأخلاقيَّة، والمصيبة الكُبرى في حياة المُؤمِنين هو تجريد الفقه من الأخلاق، واقتصار العباداتِ على الشَّكلِ والمَظهَرِ من خلال إبعادها عن الغايات الأخلاقيَّة.

إنَّ حال عالَمنا الذي تحوَّلت فيه المعلومات إلى معلوماتِيَّةٍ بَحتَةٍ، والمَعلوماتيَّةُ إلى قطاعٍ للتَّرفيه، بفضل تكنولوجيا الاتِّصال العصريَّة، والتي يسودُها التَّلوُّث و"الجهل المَعلوماتيُّ"؛ يُحتِّمُ علينا التَّفكير في أخلاق المعلومات، والبُعدِ الأخلاقيِّ للعلاقة القائمة بين المعلومات والإنسان. فكونُ المرء أكثر علماً لا يعني أنْ يكون أكثر أخلاقاً وفضيلةً وصحَّةً. والغريب في الأمر أنَّ عصرنا الذي شهد تقدُّماً مُدهِشاً في إنتاج العقل؛ شهد كذلك أسوأ استعمالاتِ نعمةِ العقل، فعادت على البشريَّة بالحروب والإرهاب عِوَضاً عن السَّلام، والتَّطوُّرات التي حصلت في مجالِ العلوم والتُّكنولوجيا في القرن الماضي خدمت الحروب والإرهاب أكثرَ من خدمتها للسَّلام، وبلغت أمراض الطَّمع والجشع والأنانيَّة وحبُّ الاستهلاك والتَّرفِ والبذخ، أبعاداً لا تعرف حدوداً، في هذه الحالة يجب علينا التَّفكير مرَّةً أُخرى في هذا السُّؤال: إلى أيِّ مدىً يمكن للمعلومة التي يتمُّ إنتاجها بعيداً عن الأخلاق، والعلوم التي يتمُّ تطويرها مُفتَقِرةً إلى الأخلاق؛ أنْ تأتيَ بالأمل والسَّعادةِ للبشريَّة؟.

وهذا الأمر لا ينطبق على المعلومات الغربيَّة/العلمانيَّة فحسب، بل ينطبق أيضاً على المعلومات الدِّينيَّة التي ينبغي أنْ تكون الأخلاق سبب وجودِها، ورغمَ أنَّ الإمكاناتِ المادِّيَّةِ للمعلوماتِ الدِّينيَّة في عصرنا أبدت تَطوُّراً كبيراً مُقارَنة بإمكاناتها في الماضي، وارتفع عدد المُتعلِّمين والمَنشوراتِ والإمكانات التِّقنيَّة ارتفاعاً كبيراً؛ فإنَّ الموضوع المُتمَثِّلَ في مدى تحوُّلِ التَّطوُّراتِ على مستوى المَعلوماتِ إلى أخلاقٍ ومَسؤوليَّةٍ في حياة الأفراد والمُجتَمعاتِ، موضوعٌ يقبَلُ النِّقاشَ كثيراً.

فكلُّ حكمٍ دِينيٍّ له جانبٌ فقهيٌّ، وجانبٌ أخلاقيٌّ. والجانب الفقهيُّ يُنَظِّمُ عالَمَ الإنسان الخارجيِّ، والجانبُ الأخلاقيُّ يُنَظِّمُ عالَمَهُ الدَّاخليَّ. وبتعبيرِ علم الأصول، يستندُ الجانب الفقهيُّ للأحكام الفقهيَّة إلى العلَّةِ السَّببيَّة، والجانب الأخلاقيُّ إلى العلَّة الغائيَّة. فالأخلاق غايةٌ، والفقه وسيلةٌ. ولولا الوسيلة لما تحقَّقت الغاية، ولولا الغاية لما كان للوسيلة معنىً.

والتَّديُّن يعني أنْ يكون المرء خَلوقاً. فالأخلاق لا تُشكِّلُ بعضَ تَصرُّفاتِ الإنسان، بل تَحتَويها جميعاً. والإنسان يصبِحُ إنساناً بقدرِ ما هو خَلوقٌ، والمُسلِمُ يكون مُسلِماً بقدر ما هو خَلوقٌ. والحضارة العظيمة والثَّقافة العالية السَّليمَةُ ليست إلَّا أخلاقاً، والأخلاق تشمل العقلَ والعلمَ والعملَ.

أمَّا اليوم مع الأسف فلا يوجد لدينا أصولُ الأخلاق كأصول الفقه، وحاجتُنا إلى أصول الأخلاق التي من شأنها أنْ تُعيدَ بناء نظامِ القِيَمِ التي تجعل التَّصرُّفاتِ أخلاقيَّةً، والتَّرتيبَ الهَرَمِيَّ للقِيَمِ؛ أمراً غنيّاً عن البيان.

وسيتناول معهدُ الفكر الإسلاميِّ هذه المواضيع ضمنَ أولويَّاتِه في أبحاثه وبرامجه وندواته.